فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (87- 88):

قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم أتبعهم من هو أغرب حالًا منهم في الحفظ فقال: {وذا النون} أي اذكره {إذ ذهب مغاضبًا} أي على هيئة الغاضب لقومه بالهجرة عنهم، ولربه بالخروج عنهم دون الانتظار لإذن خاص منه بالهجرة، وروي عن الحسن أن معنى {فظن أن لن نقدر عليه} أن لن نعاقبه بهذا الذنب، أي ظن أنا نفعل معه من لا يقدر، وهو تعبير عن اللازم بالملزوم مثل التعبير عن العقوبة بالغضب، وعن الإحسان بالرحمة وفي أمثاله كثرة، فهو أحسن الأقوال وأقومها- رواه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن قتادة عنه وعن مجاهد مثله وأسند من غير طريق عن ابن عباس- رضى الله عنهما- معناه. وكذا قال الأصبهاني عنه أن معناه: لن نقضي عليه بالعقوبة، وأنه قال أيضًا ما معناه: فظن أن لن نضيق عليه الخروج، من القدر الذي معناه الضيق، لا من القدرة، ومنه {فقدر عليه رزقه} [الفجر: 16] وروى البيهقي أيضًا عن الفراء أن نقدر بمعنى نقدر- مشددًا وبحكم، وأنشد عن ابن الأنباري عن أبي صخر الهذلي:
ولا عائدًا ذاك الزمان الذي مضى ** تباركت ما نقدر يقع ولك الشكر

{فنادى} أي فاقتضت حكمتنا أن عاتبناه حتى استسلم فألقى نفسه في البحر فالتقمه الحوت وغاص به إلى قرار البحر ومنعناه من أن يكون له طعامًا، فنادى {في الظلمات} من بطن الحوت الذي في أسفل البحر في الليل، فهي ظلمات ثلاث- نقله ابن كثير عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما- رضي الله عنهم-.
{أن لا إله إلا أنت}.
ولما نزهه عن الشريك عم فقال: {سبحانك} أي تنزهت عن كل نقص، فلا يقدر على الإنجاء من مثل ما أنا فيه غيرك؛ ثم أفصح بطلب الخلاص بقوله ناسبًا إلى نفسه من النقص ما نزه الله عن مثله: {إني كنت} أي كونًا كبيرًا {من الظالمين} أي في خروجي من بين قومي فبل الإذن، فاعف عني كما هي شيمة القادرين، ولذلك قال تعالى مسببًا عن دعائه: {فاستجبنا له} أي أوجدنا الإجابة إيجاد من هو طالب لها تصديقًا لظنه أن لن نعاقبه أنا عند ظن عبدي بي والآية تفهم أن شرط الكون مع من يظن الخير دوام الذكر وصدق الإلتجاء، وقال الرازي في اللوامع: وشرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبتدىء بالتوحيد ثم بالتسبيح والثناء ثم بالاعتراف والاستغفار والاعتذار، وهذا شرط كل دعاء- انتهى.
ولما كان التقدير: فخلصناه مما كان فيه، عطف عليه قوله، تنبيهًا على أنهما نعمتان لأن أمره مع صعوبته كان في غاية الغرابة: {ونجيناه} أي بالعظمة البالغة تنجية عظيمة، وأنجيناه إنجاء عظيمًا {من الغم} الذي كان ألجأه إلى المغاضبة ومن غيره، قال الرازي: وأصل الغم الغطاء على القلب- انتهى.
فألقاه الحوت على الساحل وأظله الله بشجرة القرع.
ولما كان هذا وما تقدمه أمورًا غريبة، أشار إلى القدرة على أمثالها من جميع الممكنات، وأن ما فعله من إكرام أنبيائه عام لأتباعهم بقوله: {وكذلك} أي ومثل ذلك الإنجاء العظيم الشأن والتنجية {ننجي} أي بمثل ذلك العظمة {المؤمنين} إنجاء عظيمًا وننجيهم تنجية عظيمة، ذكر التنجية أولًا يدل على مثلها ثانيًا، وذكر الإنجاء ثانيًا يدل على مثله أولًا وسر ذلك الإشارة إلى شدة العناية بالمؤمنين لأنهم ليس لهم كصبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- بما أشار إليه بحديث: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» «يبتلى المرء على قدر دينه» فيسلهم سبحانه من البلاء كما تسل الشعرة من العجين، فيكون ذلك مع السرعة في لطافة وهناء- بما أشارت إليه قراءة ابن عامر وأبي بكر عن عاصم- رضى الله عنهم- بتشديد الجيم لإدغام النون الثانية فيه، أو يكون المعنى أن من دعا منهم بهذا الدعاء أسرع نجاته، فإن المؤمن متى حصلت له هفوة راجع ربه فنادى معترفًا بذنبه هذا النداء، ولاسيما إن مسه بسوط الأدب، فبادر إليه الهرب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ}.
القصة الثامنة: قصة يونس عليه السلام:
اعلم أن:
هاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
أنه لا خلاف في أن ذا النون هو يونس عليه السلام لأن النون هو السمكة، وقد ذكرنا أن الاسم إذا دار بين أن يكون لقبًا محضًا وبين أن يكون مفيدًا، فحمله على المفيد أولى، خصوصًا إذا علمت الفائدة التي يصلح لها ذلك الوصف.
المسألة الثانية:
اختلفوا في أن وقوعه عليه السلام في بطن السمكة كان قبل اشتغاله بأداء رسالة الله تعالى أو بعده.
أما القول الأول: فقال ابن عباس رضي الله عنه: كان يونس عليه السلام وقومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفًا، وبقي سبطان ونصف.
فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبي عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبيًّا قويًا أمينًا فإني ألقى في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل.
فقال له الملك: فمن ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال يونس بن متى: فإنه قوي أمين فدعا الملك بيونس وأمره أن يخرج فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا، قال فهل سماني لك؟ قال: لا قال فههنا أنبياء غيري، فألحوا عليه فخرج مغاضبًا للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوما هيأوا سفينة فركب معهم فلما تلججت السفينة تكفأت بهم وكادوا أن يغرقوا، فقال الملاحون: هاهنا رجل عاص أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلا وفيها رجل عاص، ومن رسمنا أنا إذا ابتلينا بمثل هذا البلاء أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر، ولأن يغرق وأحد خير من أن تغرق السفينة، فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فيها كلها على يونس عليه السلام، فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في البحر فجاء حوت فابتلعه، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة.
فإني جعلت بطنك سجنًا له ولم أجعله طعامًا لك، ثم لما نجاه الله تعالى من بطن الحوت نبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد، فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس عليه السلام فقيل له: أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون، حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب راحتهم.
ثم أوحى الله إليه وأمره أن يذهب إليهم فتوجه يونس عليه السلام نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فأتاهم يونس عليه السلام، وقال لملكهم إن الله تعالى أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل، فقالوا: ما نعرف ما تقول، ولو علمنا أنك صادق لفعلنا، ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم فلو كان كما تقول لمنعنا الله عنكم، فطاف ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله تعالى إليه: قل لهم إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب فأبلغهم فأبوا، فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه، ثم ذكروا أمرهم وأمر يونس للعلماء الذين كانوا في دينهم، فقالوا انظروا واطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس مما ذكر من نزول العذاب شيء، وإن كان قد خرج فهو كما قال: فطلبوه فقيل لهم إنه خرج العشي فلما آيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم ولا غنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات، ثم قاموا ينتظرون الصبح.
فلما انشق الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها، وصاح الصبيان وثغت الأغنام والبقر، فرفع الله تعالى عنهم العذاب، فبعثوا إلى يونس عليه السلام فآمنوا به، وبعثوا معه بني إسرائيل.
فعلى هذا القول كانت رسالة يونس عليه السلام بعد ما نبذه الحوت، ودليل هذا القول قوله تعالى في سورة الصافات: {فنبذناه بالعراء وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 145- 147] وفي هذا القول رواية أخرى وهي أن جبريل عليه السلام قال ليونس عليه السلام: انطلق إلى أهل نينوى وأنذرهم أن العذاب قد حضرهم، فقال يونس عليه السلام: التمس دابة فقال الأمر أعجل من ذلك فغضب وانطلق إلى السفينة، وباقي الحكاية كما مرت إلى أن التقمه الحوت فانطلق إلى أن وصل إلى نينوى فألقاه هناك.
أما القول الثاني: وهو أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم قالوا إنهم لما لم يؤمنوا وعدهم بالعذاب، فلما كشف العذاب عنهم بعد ما توعدهم به خرج منهم مغاضبًا، ثم ذكروا في سبب الخروج والغضب أمورًا.
أحدها: أنه استحى أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الكذب.
وثانيها: أنه كان من عادتهم قتل الكاذب.
وثالثها: أنه دخلته الأنفة.
ورابعها: لما لم ينزل العذاب بأولئك، وأكثر العلماء على القول بأن قصة الحوت وذهاب يونس عليه السلام مغاضبًا بعد أن أرسله الله تعالى إليهم، وبعد رفع العذاب عنهم.
المسألة الثالثة:
احتج القائلون بجواز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه.
أحدها: أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضبًا لربه ويقال، هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير فإذا كان كذلك فيلزم أن مغاضبته لله تعالى من أعظم الذنوب، ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله تعالى بل كانت مع ذلك الملك أو مع القوم فهو أيضًا كان محظورًا لأن الله تعالى قال: {فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} [القلم: 48] وذلك يقتضي أن ذلك الفعل من يونس كان محظورًا.
وثانيها: قوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} وذلك يقتضي كونه شاكًا في قدرة الله تعالى.
وثالثها: قوله: {إِنّي كُنتُ مِنَ الظالمين} والظلم من أسماء الذم لقوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18].
ورابعها: أنه لو لم يصدر منه الذنب، فلم عاقبه الله بأن ألقاه في بطن الحوت.
وخامسها: قوله تعالى في آية أخرى: {فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] والمليم هو ذو الملامة، ومن كان كذلك فهو مذنب.
وسادسها: قوله: {وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} فإن لم يكن صاحب الحوت مذنبًا لم يجز النهي عن التشبه به وإن كان مذنبًا فقد حصل الغرض.
وسابعها: أنه قال: {وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} وقال: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35] فلزم أن لا يكون يونس من أولي العزم وكان موسى من أولي العزم، ثم قال: «في حقه لو كان ابن عمران حيًا ما وسعه إلا اتباعي،» وقال في يونس: «لا تفضلوني علىِّ يونس بن متى» وهذا خارج عن تفسير الآية.
والجواب عن الأول أنه ليس في الآية من غاضبه، لَكِنا نقطع على أنه لا يجوز على نبي الله أن يغاضب ربه؛ لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكًا للأمر والنهي والجاهل بالله لا يكون مؤمنًا فضلًا عن أن يكون نبيًّا، وأما ما روي أنه خرج مغاضبًا لأمر يرجع إلى الاستعداد، وتناول النفل فمما يرتفع حال الأنبياء عليهم السلام عنه، لأن الله تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه لقوله تعالى: {وما كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وقوله: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] إلى قوله: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَا قَضَيْتَ} [النساء: 65] فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم، وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى الله تعالى، وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضبًا لغير الله، والغالب أنه إنما يغاضب من يعصيه فيما يأمره به فيحتمل قومه أو الملك أو هما جميعًا، ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العذاب عليهم عندها، وقرأ أبو شرف مغضبًا.
أما قوله مغاضبة القوم أيضًا كانت محظورة لقوله تعالى: {وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} [القلم: 48] قلنا لا نسلم أنها كانت محظورة، فإن الله تعالى أمره بتبليغ تلك الرسالة إليهم، وما أمره بأن يبقى معهم أبدًا فظاهر الأمر لا يقتضي التكرار، فلم يكن خروجه من بينهم معصية، وأما الغضب فلا نسلم أنه معصية وذلك لأنه لما لم يكن منهيًا عنه قبل ذلك فظن أن ذلك جائز، من حيث إنه لم يفعله إلا غضبًا لله تعالى وأنفة لدينه وبغضًا للكفر وأهله، بل كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في المهاجرة عنهم، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} كأن الله تعالى أراد لمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل المنازل وأعلاها.